{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } إلى آخر القصة. يذكر تعالى، تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح، وما رد عليهم وردوا عليه، وعاقبة الجميع، فقال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } جميعهم، وجعل تكذيب نوح كتكذيب جميع المرسلين، لأنهم كلهم اتفقوا على دعوة واحدة، وأخبار واحدة، فتكذيب أحدهم، تكذيبٍ بجميع ما جاؤوا به من الحق، كذبوه { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ } في النسب { نُوحٌ } وإنما ابتعث الله الرسل من نسب من أرسل إليهم، لئلا يشمئزوا من الانقياد له، ولأنهم يعرفون حقيقته، فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه، فقال لهم مخاطباً بألطف خطاب - كما هي طريقة الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم - { أَلاَ تَتَّقُونَ } الله تعالى، فتتركون ما أنتم مقيمون عليه من عبادة الأوثان، وتخلصون العبادة لله وحده، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } فكونه رسولاً إليهم بالخصوص، يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم، والإيمان به، وأن يشكروا الله تعالى على أن خصهم بهذا الرسول الكريم، وكونه أميناً، يقتضي أنه لا يتقول على الله، ولا يزيد في وحيه ولا ينقص، وهذا يوجب لهم التصديق بخبره والطاعة لأمره. { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه، فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسولاً إليهم، أميناً، فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب، فذكر السبب الموجب، ثم ذكر انتفاء المانع، فقال: { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } فتتكلفون من المغرم الثقيل، { أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أرجو بذلك القرب منه، والثواب الجزيل، وأما أنتم فمنيتي، ومنتهى إرادتي منكم، النصح لكم وسلوككم الصراط المستقيم. { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } كرر ذلك عليه السلام لتكريره دعوة قومه، وطول مكثه في ذلك، كما قال تعالى:{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } [العنكبوت: 14] وقال:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } الآيات [نوح: 5-6]. فقالوا رداً لدعوته، ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } أي: كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس وأراذلهم وسقطهم. بهذا يعرف تكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، فإنهم لو كان قصدهم الحق، لقالوا - إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته - بيِّنْ لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك، ولو تأملوا حق التأمل، لعلموا أن أتباعه، هم الأعلون، خيار الخلق، أهل العقول الرزينة، والأخلاق الفاضلة، وأن الأرذل، من سلب خاصية عقله، فاستحسن عبادة الأحجار، ورضي أن يسجد لها ويدعوها، وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل. وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل، يعرف فساد ما عنده، بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه، فقوم نوح، لما سمعنا عنهم، أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } فبنوا على هذا الأصل، الذي كل أحد يعرف فساده، رد دعوته - عرفنا أنهم ضالون مخطؤون، ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة، ما يفيد الجزم واليقين بصدقه وصحة ما جاء به.