الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

أي: وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله، وهو القرآن، استكبروا وعتوا، و { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } أي: بما سواه من الكتب، مع أن الواجب أن يُؤمن بما أنزل الله مطلقاً، سواء أنزل عليهم أو على غيرهم، وهذا هو الإيمان النافع، الإيمانُ بما أنزل الله على جميع رسل الله. وأما التفريق بين الرسل والكتب، وزعْم الإيمان ببعضها دون بعض، فهذا ليس بإيمان، بل هو الكفر بعينه، ولهذا قال تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً } [النساء: 150-151]. ولهذا ردَّ عليهم تبارك وتعالى هنا رداً شافياً، وألزمهم إلزاماً لا محيد لهم عنه، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: { وَهُوَ ٱلْحَقُّ } فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات والأوامر والنواهي، وهو من عند ربهم، فالكفر به بعد ذلك كفر بالله، وكفر بالحق الذي أنزله. ثم قال: { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } أي: موافقاً له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمناً عليه. فلم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا، فإن كون القرآن مصدقاً لما معهم، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب، فلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته، ثم يأتي هو لبينته وحجته فيقدح فيها ويكذب بها، أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن، كفراً بما في أيديهم ونقضاً له. ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: { قُلْ } لهم: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } أي: بعد مجيئه { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } في ذلك ليس لكم عذر. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ } أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } أي: صبغ حب العجل وحب عبادته في قلوبهم، وتشرَّبها بسبب كفرهم. { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق، وأنتم قتلتم أنبياء الله، واتخذتم العجل إلهاً من دون الله لمَّا غاب عنكم موسى، نبي الله، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم، فالتزمتم بالقول ونقضتم بالفعل، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم، وما هذا الدين؟ فإن كان هذا إيماناً على زعمكم، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان، والكفر برسل الله، وكثرة العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بكل خير، وينهاه عن كل شر، فوضح بهذا كذبهم، وتبين تناقضهم.