الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ الۤـمۤ } * { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } * { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

تقدم الكلام على البسملة. وأما الحروف المقطَّعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي] مع الجزم بأن الله تعالى لم يُنزلها عبثاً بل لحكمة لا نعلمها. وقوله { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين، فـ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ولا شكَّ بوجهٍ من الوجوه، ونفيُ الرَّيب عنه، يستلزم ضده، إذ ضدَّ الريب والشك اليقينُ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشكُّ والرَّيب، وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمناً لضده، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحضُ لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال: { هُدًى } وحذف المعمول، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني، لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبينٌ للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم. وقال في موضع آخر:هُدًى لِّلنَّاسِ } [البقرة: 185] فعمَّم، وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق، فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً، ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع، قال تعالى:يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [الأنفال: 29] فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية. ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية [تامة]. ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التَّام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نَره ولم نُشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله، فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقلُه وفهمه، بخلاف الزنادقة والمكذِّبين بالأمور الغيبية لأن عقولهم القاصرة المُقصِرة لم تهتدِ إليها، فكذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، ومَرَجتْ أحلامُهم، وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.

السابقالتالي
2 3