الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته، وسائر صفاته، ولكنها { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منّ الله على عبده من العقل، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره، ففي { خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } في ارتفاعها واتساعها، وإحكامها وإتقانها، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم، وتنظيمها لمصالح العباد. وفي خلق { ٱلأَرْضِ } مهاداً للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها، والاعتبار. ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع، من منافع الخلق ومصالحهم، وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة، لانفراده بالخلق والتدبير، والقيام بشئون عباده { وَ } في { ٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط، وفي الطول والقصر والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير، وتسخير تَنبَهِرُ له العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحولُ، ما يدل ذلك على قدرة مصرّفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به، وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه، مما يوجب أن يؤلّه ويُعبد، ويفرد بالمحبة والتعظيم، والخوف والرجاء، وبذل الجهد في محابه ومراضيه. { وَ } في { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها. ثم سخر لها هذا البحر العظيم، والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. فمن الذي ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر تجري فيه بإذنه وتسخيره والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية النار والمعادن المعينة على حملها وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور، حصلت اتفاقاً، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز، الذي خرج من بطن أمه لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة وعلّمه ما يشاء تعليمه، أم المسخّر لذلك ربٌّ واحد حكيم عليم، لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته، واستكانت لعظمته، وخضعت لجبروته. وغاية العبد الضعيف، أن جعله الله جزءاً من أجزاء الأسباب، التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، والخوف والرجاء، وجميع الطاعة، والذل والتعظيم.

السابقالتالي
2