الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } * { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }

يخبر تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام، المتفق على إمامته وجلالته، الذي كلٌّ من طوائف أهل الكتاب تدعيه، بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات، أي: بأوامر ونواهي، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان، من الصادق، الذي ترتفع درجته، ويزيد قدره ويزكو عمله، ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام الخليل عليه السلام. فأتمَّ ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفَّاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكوراً، فقال: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد. وهذه - لَعَمْر الله - أفضل درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كل صديق متبعٍ لهم، داعٍ إلى الله وإلى سبيله. فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضا من إمامته ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يُكثِّر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية والمقامات السامية. فأجابه الرحيم اللطيف، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام، فقال: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أي: لا ينال الإمامة في الدين من ظلم نفسه وضرها، وحط قدرها، لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة، والشمائل السديدة، والمحبة التامة، والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودلَّ مفهوم الآية أن غير الظالم سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها. ثم ذكر تعالى، نموذجاً باقياً دالاً على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام، حاطَّاً للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته، ما عرف به إمامته، وتذكرت به حالته، فقال: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً } أي: مرجعاً يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه ولا يقضون منه وطراً، { وَ } جعله { أَمْناً } يأمن به كل أحد، حتى الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار. ولهذا كانوا في الجاهلية - على شركهم - يحترمونه أشد الاحترام، ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام، زاده حرمة وتعظيماً وتشريفاً وتكريماً. { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } يحتمل أن يكون المراد بذلك المقام المعروف الذي قد جعل الآن مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا ركعتا الطواف، يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم، وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفرداً مضافاً، فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف والسعي، والوقوف بعرفة ومزدلفة، ورمي الجمار، والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج.

السابقالتالي
2