الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } * { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } * { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاقُ الاعتقادي والنفاقُ العملي، فالنفاق العملي كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " آية المنافق ثلات: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " وفي رواية: " وإذا خاصم فَجَر ". وأما النفاقُ الاعتقادي المُخرج عن دائرة الإسلام، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجوداً قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [من مكة] إلى المدينة، وبعد أن هاجر، فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزَّهم، ذلَّ من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر بعضهم الإسلام خوفاً ومخادعة، ولتحقن دماؤهم، وتسلَمَ أموالهم، فكانوا بين أَظهُر المسلمين في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة ليسوا منهم. فمن لُطف الله بالمؤمنين، أن جلاَّ أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميَّزون بها، لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [قال تعالى]:يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 64] فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. والمخادعة: أن يُظهر المُخادعُ لمن يخادعه شيئا ويُبطن خلافه، لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك، فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب لأن المخادع، إما أن يُنتج خداعُه ويحصِّل ما يريد، أو يسلَمَ لا لَهُ ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [شيئاً] وعباده المؤمنون لا يضرهم كيدُهم شيئاً، فلا يضر المؤمنين أَنْ أَظْهَرَ المنافقون الإيمان، فسلِمت بذلك أموالُهم وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك. وقوله: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } والمراد بالمرض هنا: مرض الشكُّ والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يُخرِجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المُردِية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع، كلها من مرض الشُّبهات، والزنا ومحبة [الفواحش و]المعاصي وفعلها من مرض الشهوات، كما قال تعالى:فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب: 32] وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المَرَضين، فحصل له اليقين والإيمان، والصبر عن كل معصية، فرَفَل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى:وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 110] وقال تعالى:فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] وقال تعالى:وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] فعقوبة المعصية المعصيةُ بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنةُ بعدها، قال تعالى:وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى } [مريم: 76].