الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } * { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } * { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } * { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } * { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }

لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء المخلصون المتبعون لمراضي ربهم، المنيبون إليه، ذكر من أتى بعدهم، وبدَّلوا ما أُمرُوا به، وأنه خلف من بعدهم خلف، رجعوا إلى الخلف والوراء، فأضاعوا الصلاة التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها، فتهاونوا بها وضيعوها، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين، التي هي آكد الأعمال، وأفضل الخصال، كانوا لما سواها من دينهم أضيع، وله أرفض، والسبب الداعي لذلك، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإراداتها فصارت هممهم منصرفة إليها، مقدمة لها على حقوق الله، فنشأ من ذلك التضييع لحقوقه، والإقبال على شهوات أنفسهم، مهما لاحت لهم حصلوها، وعلى أي: وجه اتفقت تناولوها. { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } أي: عذاباً مضاعفاً شديداً، ثم استثنى تعالى فقال: { إِلاَّ مَن تَابَ } عن الشرك والبدع والمعاصي، فأقلع عنها وندم عليها، وعزم عزماً جازماً أن لا يعاودها، { وَآمَنَ } بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، { وَعَمِلَ صَالِحاً } وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله، إذا قصد به وجهه، { فَأُوْلَـٰئِكَ } الذي جمعوا بين التوبة والإيمان، والعمل الصالح، { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } المشتملة على النعيم المقيم، والعيش السليم، وجوار الرب الكريم، { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } من أعمالهم، بل يجدونها كاملة، موفرة أجورها، مضاعفاً عددها. ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها، ليست كسائر الجنات، وإنما هي جنات عدن، أي: جنات إقامة، لا ظعن فيها، ولا حِوَلَ ولا زوال، وذلك لسعتها، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور، والبهجة والحبور. { ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ } أي: التي وعدها الرحمن، أضافها إلى اسمه { ٱلرَّحْمَـٰنُ } لأن فيها من الرحمة والإحسان، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب [بشر]. وسماها تعالى رحمته، فقال:وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [آل عمران: 107]. وأيضاً ففي إضافتها إلى رحمته، ما يدل على استمرار سرورها، وأنها باقية ببقاء رحمته، التي هي أثرها وموجبها، والعباد في هذه الآية، المراد: عباد إلهيته، الذين عبدوه، والتزموا شرائعه، فصارت العبودية وصفاً لهم كقوله:وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان: 63] ونحوه، بخلاف عباده المماليك فقط، الذين لم يعبدوه، فهؤلاء وإن كانوا عبيداً لربوبيته، لأنه خلقهم ورزقهم ودبرهم، فليسوا داخلين في عبيد إلهيته العبودية الاختيارية، التي يمدح صاحبها، وإنما عبوديتهم عبودية اضطرار، لا مدح لهم فيها. وقوله: { بِٱلْغَيْبِ } يحتمل أن تكون متعلقة بـ { وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } فيكون المعنى على هذا، أن الله وعدهم إياها وعداً غائباً، لم يشاهدوه ولم يروه، فآمنوا بها، وصدقوا غيبها، وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها، لكانوا أشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، وأكثر لها سعياً، ويكون في هذا، مدح له بإيمانهم بالغيب، الذي هو الإيمان النافع.

السابقالتالي
2