يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك:- { لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي: لا أزال مسافراً وإن طالت عليَّ الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبداً من عباد الله العالمين، عنده من العلم ما ليس عندك، { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه. { فَلَمَّا بَلَغَا } أي: هو وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فَثَمَّ ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سرباً وهذا من الآيات. قال المفسرون: إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حياً. فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى على وجود مطلبه، وأيضاً فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة، قال له فتاه: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ } أي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ } لأنه السبب في ذلك { وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب. قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر، فقال موسى: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي: نطلب { فَٱرْتَدَّا } أي: رجعا { عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } أي رجعا يقصان أثرهما، إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبداً من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبداً صالحاً، لا نبياً على الصحيح. آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ } ] { مِن لَّدُنَّا } [أي: من عندنا] عِلْماً، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصاً في العلوم الإيمانية والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام، فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك { لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك، ولهذا قال: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } أي: كيف تصبر على أمر، ما أحطت بباطنه وظاهره، ولا علمت المقصود منه ومآله؟ فقال موسى: { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر، فحينئذ قال له الخضر: { فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.