الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } * { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } * { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } * { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }

يخبر تعالى أنه صرَّف لعباده في هذا القرآن، أي: نوَّع الأحكام ووضحها، وأكثر من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه، ووعظ وذكَّر، لأجل أن يتذكَّروا ما ينفعهم فيسلكوه، وما يضرهم فيدعوه. ولكن أبى أكثر الناس إلا نفوراً عن آيات الله، لبغضهم للحق، ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل، حتى تعصبوا لباطلهم، ولم يعيروا آيات الله لهم سمعاً، ولا ألقوا لها بالاً. ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة، التوحيد الذي هو أصل الأصول، فأمر به، ونهى عن ضده، وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئاً كثيراً، بحيث من أصغى إلى بعضها، لا تدع في قلبه شكاً ولا ريباً. ومن الأدلة على ذلك هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا، فقال: { قُلْ } للمشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر: { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } أي: على موجب زعمهم وافترائهم، { إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } أي: لاتخذوا سبيلاً إلى الله بعبادته والإنابة إليه، والتقرب وابتغاء الوسيلة، فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه، إلهاً مع الله؟! هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟!! فعلى هذا المعنى، تكون هذه الآية كقوله تعالى:أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57]. وكقوله تعالى:وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [الفرقان: 17-18]. ويحتمل أن المعنى في قوله: { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } أي: لطلبوا السبيل، وسعوا في مغالبة الله تعالى، فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر هو الرب الإله، فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله مقهورة مغلوبة، ليس لها من الأمر شيء، فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى:مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [المؤمنون: 91]. { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ } أي: تقدس وتنزه وعلت أوصافه { عَمَّا يَقُولُونَ } من الشرك به، واتخاذ الأنداد معه { عُلُوّاً كَبِيراً } فَعَلا قدره وعظم، وجلّت كبرياؤه، التي لا تقادر أن يكون معه آلهة، فقد ضل من قال ذلك ضلالاً مبيناً، وظلم ظلماً كبيراً. لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة، وصغرت لدى كبريائه السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهنوَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]. وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي، فقراً ذاتياً، لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات. هذا الفقر بجميع وجوهه، فقر من جهة الخلق والرزق والتدبير، وفقر من جهة الاضطرار، إلى أن يكون معبودهم ومحبوبهم، الذي إليه يتقربون، وإليه في كل حال يفزعون، ولهذا قال: { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ } من حيوان ناطق وغير ناطق، ومن أشجار ونبات، وجامد وحيٍّ وميت { إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال، ولسان المقال.

السابقالتالي
2