الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } * { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } * { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في { مَا لَكُمْ } للإنكار والتوبيخ أي، أيّ شيء يمنعكم عن ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، والنفر هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان، لأمر يحدث. قوله { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } أصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ومثله ادّاركوا، واطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي
توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل   
وقرأ الأعمش " تثاقلتم " على الأصل، ومعناه تباطأتم، وعدى بـ { إلى } لتضمنه معنى الميل والإخلاد. وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرىء { ٱثَّاقَلْتُمْ } على الاستفهام، ومعناه التوبيخ، والعامل في الظرف " ما " في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل، كأنه قيل ما يمنعكم، أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و { إِلَى ٱلأرْضِ } متعلق بـ { اثاقلتم } وكما مرّ. قوله { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالىوَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـئِكَةً فِى ٱلأرْضِ يَخْلُفُونَ } الزخرف 60 أي بدلاً منكم، ومثله قول الشاعر
قلبت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان   
أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد، ومعنى { ٱلآخِرَةِ } أي في جنب الآخرة، وفي مقابلتها { إِلاَّ قَلِيلٌ } أي إلا متاع حقير لا يعبأ به، ويجوز أن يراد بالقليل العدم، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي، والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع. قوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } هذا تهديد شديد، ووعيد موكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل في الدنيا فقط، وقيل هو أعم من ذلك. قوله { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } أي يجعل لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم. واختلف في هؤلاء القوم من هم؟ فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، ولا وجه للتعين بدون دليل. قوله { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } معطوف على { يَسْتَبْدِلْ } ، والضمير قيل لله، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم أي ولا تضرّوا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئاً، أو لا تضرّوا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6