الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }

لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال { إِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلأَحْبَارِ } إلى آخره، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة، وأثبت هذا للكثير منهم لأن فيهم من لم يلتبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فالله المستعان، قوله { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. قوله { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } قيل هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع. وقيل هم من يفعل ذلك من المسلمين، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ، فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال ابن جرير الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. انتهى. ومنه ناقة كناز أي مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء اجتمع. واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا؟ فقال قوم هو كنز، وقال آخرون ليس بكنز. ومن القائلين بالقول الأوّل أبو ذر. وقيده بما فضل عن الحاجة. ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. قوله { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين، هما الذهب والفضة، فقال ابن الأنباري إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب، وهو الفضة قال ومثله قوله تعالىوَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } البقرة 45 ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ، ومثله قولهوَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا } الجمعة 11 أعاد الضمير إلى التجارة لأنها الأهمّ. وقيل إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه، والعرب تؤنث الذهب وتذكره. وقيل إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله { يَكْنِزُونَ } وقيل إلى الأموال. وقيل للزكاة، وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى، وهو كثير في كلام العرب، وأنشد سيبويه
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف   
ولم يقل راضون، ومثله قول الآخر
رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني   
ولم يقل بريين، ومثله قول حسان

السابقالتالي
2 3