الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } * { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } * { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

المواطن جمع موطن، ومواطن الحرب مقاماتها، والمواطن التي نصر الله المسلمين فيها هي يوم بدر، وما بعده من المواطن التي نصر الله المسلمين على الكفار فيها قبل يوم حنين، { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على { مواطن } بتقدير مضاف إما في الأوّل وتقديره في أيام مواطن، أو في الثاني، وتقديره وموطن يوم حنين، لئلا يعطف الزمان على المكان. وردّ بأنه لا استبعاد في عطف الزمان على المكان، فلا يحتاج إلى تقدير. وقيل إن { يوم حنين } منصوب بفعل مقدّر معطوف على { نَصَرَكُمُ } أي ونصركم يوم حنين، ورجح هذا صاحب الكشاف، قال وموجب ذلك أن قوله { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } بدل من { يوم حنين } ، فلو جعلت ناصبة هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها. وردّ بأن العطف لا يجب فيه تشارك المتعاطفين في جميع ما ثبت للمعطوف، كما تقول جاءني زيد، وعمرو، مع قومه، أو في ثيابه أو على فرسه، وقيل إن { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ليس ببدل من { يوم حنين } ، بل منصوب بفعل مقدّر أي اذكروا إذا أعجبتكم كثرتكم. وحنين واد بين مكة والطائف، وانصرف على أنه اسم للمكان، ومن العرب من يمنعه على أنه اسم للبقعة، ومنه قول الشاعر
نصروا نبيهم وشدّوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال   
وإنما أعجب من أعجب من المسلمين بكثرتهم لأنهم كانوا اثني عشر ألفاً. وقيل أحد عشر ألفاً، وقيل ستة عشر ألفاً. فقال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة، فوكلوا إلى هذه الكلمة، فلم تغن الكثرة شيئاً عنهم، بل انهزموا وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت معه طائفة يسيرة، منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث، ثم تراجع المسلمون، فكان النصر والظفر. والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة، أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم، ولم تفدكم. قوله { بِمَا رَحُبَتْ } الرحب بضم الراء السعة، والرحب بفتح الراء المكان الواسع، والباء بمعنى " مع " ، و " ما " مصدرية، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال. والمعنى أن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليهم بسبب ما حلّ بهم من الخوف والوجل وقيل إن الباء بمعنى " على " أي على رحبها { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أي انهزمتم حال كونكم مدبرين أي مولين أدباركم، جاعلين لها إلى جهة عدوّكم. قوله { ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي أنزل ما يسكنهم، فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين هم الذين لم ينهزموا، وقيل الذين انهزموا.

السابقالتالي
2 3