الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

لما بيّن الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، وصرّح بأن ذلك متحتم، ولو كانوا أولي قربى، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها. وقد ذكر أهل التفسير أن { ما كان } في القرآن يأتي على وجهين الأوّل على النفي نحووَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } آل عمران 145، والآخر على معنى النهي نحومَّا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الأحزاب 53 و { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار، وتحريم الاستغفار لهم، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين. وعلى فرض أنه قد كان بلغه، كما يفيده سبب النزول، فإنه قبل يوم أحد بمدّة طويلة، وسيأتي. فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدّمه من الأنبياء، كما في صحيح مسلم عن عبد الله، قال كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول " ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وفي البخاري، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه، فجعل النبي يخبر عنه بأنه قال " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " قوله { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار، والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك. وقد قال سبحانهإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } النساء 48. فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده. قوله { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأَبِيهِ } الآية ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدّم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدوّ لله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدلّ على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار، ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين، أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصرّ على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدوّ الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدلّ على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل.

السابقالتالي
2 3 4