الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم، وفرّع على كل قسم منها ما هو لائق به، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه، وذكر الشراء تمثيل، كما في قولهأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } البقرة 16 مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء، وأصل الشراء بين العباد هو إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه، أو أنفع منه، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين، أي بأن يكونوا من جملة أهل الجنة، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم، وهي أنفس الأعلاق، والجود بها غاية الجود
يجود بالنفس أن ضنّ الجبان بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود   
وجاد الله عليهم بالجنة، وهي أعظم ما يطلبه العباد، ويتوسلون إليه بالأعمال والمراد بالأنفس هنا أنفس المجاهدين، وبالأموال ما ينفقونه في الجهاد. قوله { يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور، كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل يقاتلون في سبيل الله، ثم بيّن هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } والمراد أنهم يقدمون على قتل الكفار في الحرب، ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد، والتعرّض للموت بالإقدام على الكفار. قرأ الأعمش، والنخعي، وحمزة، والكسائي وخلف بتقديم المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل. وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول. وقوله { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ } إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل، كما وقع في القرآن، وانتصاب و { عداً } و { حقاً } على المصدرية أو الثاني نعت للأوّل، و { في التوراة } متعلق بمحذوف أي وعداً ثابتاً فيها. قوله { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال، ما لا يخفى، فإنه أوّلاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم، وأموالهم، بأن لهم الجنة، وجاء بهذه العبارة الفخيمة، وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزّلة، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق، لا بدّ من حصول الموعود به، فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، ثم زادهم سروراً وحبوراً، فقال { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ } أي أظهروا السرور بذلك، والبشارة هي إظهار السرور، وظهوره يكون في بشرة الوجه، ولذا يقال أسارير الوجه أي التي يظهر فيها السرور.

السابقالتالي
2 3 4