الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

لما ذكر الله أصناف المنافقين، وبين طرائقهم المختلفة، عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، فيكون التقدير ومنهم الذين اتخذوا على أن { الذين } مبتدأ، وخبره " منهم " المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدّمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذمّ. وقرأ المدنيون وابن عامر " الذين اتخذوا " بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره { لاَ تَقُمْ } قاله الكسائي، وقال النحاس إن الخبر هو { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِى بَنَوْاْ } وقيل الخبر محذوف، والتقدير يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار. و { ضِرَارًا } منصوب على المصدرية، أو على العلية { وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا وَإِرْصَادًا } معطوفة على { ضِرَارًا } فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة الأوّل الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. الثاني الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. الثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء، فتقلّ جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. الرابع الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله. قال الزجاج الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون هو الإعداد، والمعنى متقارب يقال أرصدت لكذا إذا أعددته مرتقباً له به. وقال أبو زيد يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشرّ. وقال ابن الأعرابي لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب أي أعدّوه لهؤلاء، وارتقبوا به وصولهم، وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله { مِن قَبْلُ } متعلق بـ { اتخذوا } أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بـ { حارب } أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار. قوله { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين، فردّ الله عليهم بقوله { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } فيما حلفوا عليه، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } أي في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه، يستلزم النهي عن الصلاة فيه. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح " من قام رمضان إيماناً به واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه " ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله { لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } واللام في { لَّمَسْجِدٌ } لام القسم، وقيل لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء تثبيته ورفعه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7