الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

الجنوح الميل، يقال جنح الرجل إلى الرجل مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح، لأنها مالت إلى الحنوّة، وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير، ومنه قول ذي الرمة
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح   
ومثله قول عنترة
جوانح قد أيقنّ أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب   
يعني الطير، والسلم الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر، وابن محيصن، والمفضل بكسر السين، وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ العقيلي " فَٱجْنَحْ " بضم النون، وقرأ الباقون بفتحها. والأولى لغة قيس، والثانية لغة تميم. قال ابن جني ولغة قيس هي القياس، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب، أو هي مؤوّلة بالخصلة، أو الفعلة. وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل هي منسوخة بقولهفَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } التوبة 5 وقيل ليست بمنسوخة، لأن المراد بها قبول الجزية، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم، فتكون خاصة بأهل الكتاب. وقيل إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالىفَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } محمد 35 وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة، لا إذا لم يكونوا كذلك، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرّر في مواطنه { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } في جنوحك للسلم، ولا تخف من مكرهم، فـ { إِنَّه } سبحانه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لما يقولون { ٱلْعَلِيمُ } بما يفعلون. { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } بالصلح، وهم مضمرون الغدر والخدع { فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ } أي كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر، وجملة { هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } تعليلية، أي لا تخف من خدعهم ومكرهم، فإن الله الذي قوّاك عليهم بالنصر فيما مضى، وهو يوم بدر، هو الذي سينصرك ويقوّيك عليهم عند حدوث الخدع والنكث، والمراد بالمؤمنين المهاجرون والأنصار، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله. وقال جمهور المفسرين المراد الأوس والخزرج، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والحمل على العموم أولى، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه، حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة، وذهب ما كان بينهم من العصبية، وجملة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } مقرّرة لمضمون ما قبلها.

السابقالتالي
2