الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } * { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

قوله { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللَّهُ } لما بيّـن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم، ووقوع الاستغفار. ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار، أعني كفار مكة، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح. والمعنى أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش إن «أن» زائدة. قال النحاس لو كان كما قال لرفع { يعذبهم } ، وجملة { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } في محل نصب على الحال، أي وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدّون الناس عن المسجد الحرام، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، وجملة { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } في محل نصب على أنها حال من فاعل { يَصِدُّونَ } ، وهذا كالردّ لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت، وأن أمره مفوّض إليهم، ثم قال مبيناً لمن له ذلك { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } أي ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون. قوله { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } المكاء الصفير من مكا يمكو مكاء، ومنه قول عنترة
وخليل غانية تركت مجندلا تمكو فريصته كشدق الأعلم   
أي تصوّت. ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح، قيل المكاء هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر
إذا غرّد المكاء في غير دوحة فويل لأهل الشاء والحمرات   
والتصدية التصفيق، يقال صدّى يصدّى تصدية إذا صفق، ومنه قول عمر بن الإطنابة
وظلوا جميعاً لهم ضجة مكاء لدى البيت بالتصدية   
أي بالتصفيق. وقيل المكاء الضرب بالأيدي، والتصدية الصياح. وقيل المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم، والتصدية الصفير. وقيل التصدية صدّهم عن البيت. قيل والأصل على هذا تصددة، فأبدل من إحدى الدالين ياء. ومعنى الآية أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة، فوضعوا ذلك موضع الصلاة، قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة. وقرىء بنصب " صلاتهم " على أنها خبر كان، وما بعده اسمها. قوله { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم، والمراد به عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة. قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية. والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصدّ عن سبيل الحق، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك، وإنفاق أموالهم عليها، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب.

السابقالتالي
2 3 4