الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } * { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ }

الزحف الدنوّ قليلاً قليلاً، وأصله الاندفاع على الإلية. ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً. والتزاحف التداني والتقارب. تقول زحف إلى العدوّ زحفاً، وازدحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض، وانتصاب { زحفاً } إما على أنه مصدر لفعل محذوف، أي تزحفون زحفاً، أو على أنه حال من المؤمنين، أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار، أو حال من الذين كفروا، أي حال كون الكفار زاحفين إليكم، أو حال من الفريقين، أي متزاحفين. { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأدْبَارَ } نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم، وقد دبّ بعضهم إلى بعض للقتال، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلا حالة التحرّف والتحيز. وقد روي عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي نضرة، وعكرمة، ونافع، والحسن، وقتادة، وزيد بن أبي حبيب، والضحاك أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر. وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. وبه قال أبو حنيفة، قالوا ويؤيده قوله { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فإنه إشارة إلى يوم بدر. وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة، وأن الفرار من الزحف محرّم، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر. وأجيب عن قول الأوّلين بأن الإشارة في { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف. بل هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال. ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرّحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث " اجتنبوا السبع الموبقات " ، وفيه " والتولي يوم الزحف " ونحوه من الأحاديث، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه، وهو مبين في مواطنه. قال ابن عطية والأدبار جمع دبر، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له.

السابقالتالي
2 3 4 5