الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } * { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

قوله { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } خبر مقدّم و { أُمَّةٍ } مبتدأ مؤخر، و { يَهْدُونَ } وما بعده صفة له. ويجوز أن يكون { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } هو المبتدأ كما تقدّم في قولهوَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } البقرة 8. والمعنى أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق. " و " بالحق { يَعْدِلُونَ } بينهم. قيل هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، كما ورد في الحديث الصحيح. ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } والاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج كفّ الشيء، يقال أدرجته ودرجته، ومنه إدارج الميت في أكفانه. وقيل هو من الدرجة، فالاستدراج أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبيّ إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم مات بعضهم في إثر بعض. والمعنى سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية، ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك، وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة. قوله { وَأُمْلِى لَهُمْ } معطوف على سنستدرجهم، أي أطيل لهم المدّة وأمهلهم، وأؤخر عنهم العقوبة. وجملة { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء، ومؤكدة له. والكيد المكر، والمتين الشديد القويّ، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب. قال في الكشاف سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان. والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } للإنكار عليهم، حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به. و«ما» في { مَا بِصَاحِبِهِم } للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر { بصاحبهم } ، والجنة مصدر، أي وقع منهم التكذيب، ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً. وقيل إنّ «ما» نافية واسمها { مّن جِنَّةٍ } وخبرها بصاحبهم، أي ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهمياأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } الحجر 6 ويكون الكلام قد تمّ عند قوله { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ }. والوقف عليه من الأوقاف الحسنة. وجملة { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } للإنكار والتقريع والتوبيخ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدّم بيانه.

السابقالتالي
2 3