الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } * { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } * { قَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } * { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } * { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } * { قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱلأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } * { قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }

قوله { آمَنتُمْ بِهِ } قرىء بحذف الهمزة على الإخبار وبإثباتها. أنكر على السحرة فرعون إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك، ثم قال بعد الإنكار عليهم، مبيناً لما هو الحامل لهم على ذلك في زعمه { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ } أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى عن مواطأة بينكم سابقة { لِتُخْرِجُواْ } من مدينة مصر { أَهْلِهَا } من القبط، وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل. ومعنى { فِى ٱلْمَدِينَةِ } أن هذه الحيلة والمواطأة كانت بينكم، وأنتم بالمدينة، مدينة مصر، قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء. ثم هدّدهم بقوله { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة صنعكم هذا، وسوء مغبته، ثم لم يكتف بهذا الوعيد المجمل، بل فصّله فقال { لأقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، ثم لم يكتف عدوّ الله بهذا، بل جاوزه إلى غيره فقال { ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ } في جذوع النخل، أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكيل بهم، وإفراطاً في تعذيبهم، وجملة { قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } استئنافية جواب سؤال كما تقدّم، ومعناه إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل، فبْعَدْه يومُ الجزاء سيجازيك الله بصنعك، ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة، لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى { إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ } بالموت، أي لا بدّ لنا من الموت، ولا يضرّنا كونه بسبب منك. قوله { وَمَا تَنقِمُ مِنَّا } قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش هي لغة، وقرأ الباقون بكسرها. يقال نقمت الأمر أنكرته، أي لست تعيب علينا وتنكر منا { إِلا أَنْ ءامَنَّا بِـئَايَـٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } الإفراغ الصبّ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا. طلبوا أبلغ أنواع الصبر، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق، وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام، غير محرّفين، ولا مبدّلين، ولا مفتونين. ولقد كان ما هم عليه من السحر، والمهارة في علمه، مع كونه شرّاً محضاً، سبباً للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر، وتوفنا مسلمين.

السابقالتالي
2 3