الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } * { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } * { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ }

قوله { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } قد تقدّم الكلام على هذا، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة، وفي بعضها بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها، وقد قدّمنا نحو هذا في أوّل سورة الحديد { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب الذي لا يغالب الحكيم في أفعاله وأقواله. { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه، و " لم " مركبة من اللام الجارّة، وما الاستفهامية، وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها، كما في نظائرها. ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي عظم ذلك في المقت، وهو البغض، والمقت والمقاتة مصدران، يقال رجل مقيت، وممقوت إذا لم يحبه الناس، قال الكسائي { أَن تَقُولُواْ } في موضع رفع لأن { كبر } فعل بمعنى بئس، و { مقتاً } منتصب على التمييز، وعلى هذا فيكون في { كبر } ضمير مبهم مفسر بالنكرة، وأن { تقولوا } هو المخصوص بالذمّ، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء، وخبره الجملة المتقدّمة عليه، أو خبره محذوف، أو هو خبر مبتدأ محذوف. وقيل إنه قصد بقوله { كَبُرَ } التعجب، وقد عدّه ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل إنه ليس من أفعال الذم، ولا من أفعال التعجب، بل هو مسند إلى { أن تقولوا } ، و { مقتاً } تمييز محوّل عن الفاعل. { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } قال المفسرون إن المؤمنين قالوا وددنا أن الله يخبرنا بأحبّ الأعمال إليه حتى نعمله، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا. فأنزل الله { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ } الآية، وانتصاب { صفاً } على المصدرية، والمفعول محذوف، أي يصفون أنفسهم صفا، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي صافين، أو مصفوفين. قرأ الجمهور { يقاتلون } على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول، وقرىء يقتلون بالتشديد، وجملة { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } في محل نصب على الحال من فاعل { يقاتلون } ، أو من الضمير في { صفاً } على تقدير أنه مؤوّل بصافين، أو مصفوفين، ومعنى { مَّرْصُوصٌ } ملتزق بعضه ببعض، يقال رصصت البناء أرصه رصاً إذا ضممت بعضه إلى بعض. قال الفرّاء مرصوص بالرصاص. قال المبرد هو مأخوذ من رصصت البناء إذا لايمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل هو من الرصيص، وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض، والتراصّ التلاصق. { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } لما ذكر سبحانه أنه يحبّ المقاتلين في سبيله بيّن أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدا في سبيل الله، وحلّ العقاب بمن خالفهما، والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر، أي اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما { لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى } هذا مقول القول، أي لم تؤذونني بمخالفة ما أمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأدرة، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الأحزاب، وجملة { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } في محلّ نصب على الحال، «وقد» لتحقق العلم، أو لتأكيده، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله، والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي لما أصرّوا على الزيغ، واستمرّوا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحقّ، وقيل فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب.

السابقالتالي
2 3 4