الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

الاستفهام في { أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِى رَبّا } للإنكار، وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غير الله، أي كيف أبغي غير الله رباً مستقلاً وأترك عبادة الله، أو شريكاً لله فأعبدهما معاً، والحال أنه ربّ كل شيء، والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له، مخلوق مثلي لا يقدر على نفع ولا ضرّ، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره، و { غير } منصوب بالفعل الذي بعده، و { ربا } تمييز أو مفعول ثان على جعل الفعل ناصباً لمفعولين. قوله { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها، فكل كسبها للشرّ عليها لا يتعداها إلى غيرها، وهو مثل قوله تعالىلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } البقرة 286 وقولهلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } طه 15. قوله { وَلاَ تَزِرُ وٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالىوَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } الشرح 2 وهو هنا الذنبوَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } الأنعام 31 قال الأخفش، يقال وزر يَوزر، ووزر يزر وزراً، ويجوز إزراً، وفيه ردّ لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر. وقد قيل إن المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها لقوله تعالىوَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } الأنفال 25، ومثله قول زينب بنت جحش يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال " نعم إذا كثر الخبث " ، والأولى حمل الآية على ظاهرها أعني العموم، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك، فيكون في حكم المخصص بهذا العموم، ويقرّ في موضعه ولا يعارض هذه الآية قوله تعالىوَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } العنكبوت 13 فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرىلِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } النحل 25 { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } في الدنيا، وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين. قوله { وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلأرْضِ } خلائف جمع خليفة أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السالفة، قال الشماخ
أصيبهم وتخطئني المنايا وأخلف في ربوع عن ربوع   
أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً، أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ } في الخلق، والرزق، والقوة، والفضل، والعلم، و { درجات } منصوب بنزع الخافض، أي إلى درجات { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَـٰكُمُ } أي ليختبركم فيما آتاكم من تلك الأمور، أو ليبتلي بعضكم ببعض كقوله تعالى

السابقالتالي
2