الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } * { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } * { قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ } * { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } * { وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

قوله { وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ } أي عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم، ولا يضرّه كفرهم، ومع كونه غنياً عنهم، فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطوّل { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها العباد العصاة، فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِ إهلاكـكَمْ ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية، أي ويستخلف استخلافاً مثل إنشائكم من ذرية قوم آخرين، قيل هم أهل سفينة نوح، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفاً بهم { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } من البعث والمجازاة { لآتٍ } لا محالة، فإن الله لا يخلف الميعاد { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين عما هو نازل بكم، وواقع عليكم يقال أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني. قوله { قُلْ ياقَوْم ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } المكانة الطريقة، أي اثبتوا على ما أنتم عليه، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، إني ثابت على ما أنا عليه { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } من هو على الحق ومن هو على الباطل، وهذا وعيد شديد، فلا يرد ما يقال كيف يأمرهم بالثبات على الكفر و { عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } هي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة. وقال الزجاج معنى مكانتكم تمكنكم في الدنيا، أي اعملوا على تمكنكم من أمركم. وقيل على ناحيتكم. وقيل على موضعكم. قرأ حمزة والكسائي " من يكون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. والضمير في { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } للشأن أي لا يفلح من اتصف بصفة الظلم، وهو تعريض لهم بعدم فلاحهم لكونهم المتصفين بالظلم. قوله { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأنْعَامِ } هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وتأثيرهم لآلهتهم على الله سبحانه، أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم نصيباً، ولآلهتهم نصيباً من ذلك، يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بانفاقه في ذلك عوّضوا عنه ما جعلوه لله، وقالوا الله غنيّ عن ذلك، والزعم الكذب قرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي " بِزُعْمِهِمْ " بضم الزاي، وقرأ الباقون بفتحها، وهما لغتان { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱللَّهِ } أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم، وقرى الضيف { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ } أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء الحكم حكمهم في إيثار آلهتهم على الله سبحانه.

السابقالتالي
2 3