الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } * { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }

قوله { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ } الشرح الشق وأصله التوسعة، وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح، { وَمَن يُرِدِ } إضلاله { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً } قرأ ابن كثير " ضَيقاً " بالتخفيف مثل هين ولين. وقرأ الباقون بالتشديد وهما لغتان. وقرأ نافع " حَرَجاً " بالكسر، ومعناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً، وحسن ذلك اختلاف اللفظ. وقرأ الباقون بالفتح، جمع حرجة، وهي شدة الضيق، والحرجة الغيظة، والجمع حرج وحرجات، ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه. وقال الجوهري مكان حرج وحرج، أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم. وقال الزجاج الحرج أضيق الضيق. وقال النحاس حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به كما يقال رجل عدل. قوله { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء } قرأ ابن كثير بالتخفيف من الصعود، شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه، بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء. وقرأ النخعي «يصاعد» وأصله يتصاعد. وقرأ الباقون { يصعد } بالتشديد وأصله يتصعد، ومعناه يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة، كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء. وقيل المعنى على جميع القراءات كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوّاً على الإسلام، و " ما " في { كأنما } هي المهيئة لدخول كأن على الجمل الفعلية. قوله { كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً يجعل الله الرجس. والرجس في اللغة النتن، وقيل هو العذاب، وقيل هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقيل هو ما لا خير فيه والمعنى الأوّل هو المشهور في لغة العرب، وهو مستعار لما يحلّ بهم من العقوبة وهو يصدق على جميع المعاني المذكورة. والإشارة بقوله { وَهَـٰذَا صِرٰطُ رَبّكَ } إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، أي هذا طريق دين ربك لا اعوجاج فيه. وقيل الإشارة إلى ما تقدّم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وانتصاب { مُّسْتَقِيماً } على الحال كقوله تعالىوَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدّقًا } البقرة 91،وَهَـٰذَا بَعْلِى شَيْخًا } هود 72 { وَقَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَـٰتِ } أي بيناها وأوضحناها { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ما فيها، ويتفهمون معانيها. { لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ عِندَ رَبّهِمْ } أي لهؤلاء المتذكرين الجنة، لأنها دار السلامة من كل مكروه، أو دار الرب السلام مدخرة لهم عند ربهم، ويوصلهم إليها { وَهُوَ وَلِيُّهُم } أي ناصرهم، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } للسببية أي بسبب أعمالهم. قوله { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } الظرف منصوب بمضمر يقدر متقدماً، أي واذكر يوم نحشرهم أو { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } نقول { يَامَعْشَر ٱلْجِنَّ } والمراد حشر جميع الخلق في القيامة، والمعشر الجماعة أي يوم الحشر نقول، يا جماعة الجن { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ } أي من الاستمتاع بهم، كقوله { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } وقيل استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قوله استكثر الأمير من الجنود، والمراد التقريع والتوبيخ، وعلى الأوّل، فالمراد بالاستمتاع التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي، فوقعوا فيها وتلذذوا بها.

السابقالتالي
2 3