الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ }

قوله { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ } قرأ الجمهور بفتح الواو بعد همزة الاستفهام. وقرأ نافع، وابن أبي نعيم بإسكانها، قال النحاس يجوز أن يكون محمولاً على المعنى، أي انظروا وتدبروا { أَفغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ } والمراد بالميت هنا الكافر، أحياه الله بالإسلام. وقيل معناه كان ميتاً حين كان نطفة، فأحييناه بنفخ الروح فيه. والأوّل أولى، لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، ومنه قول القائل
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرأ لم يحيـي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور   
والنور عبارة عن الهداية والإيمان. وقيل هو القرآن. وقيل الحكمة. وقيل هو النور المذكور في قوله تعالىيَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم } الحديد 12 والضمير في " به " راجع إلى النور { كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ } أي كمن صفته في الظلمات، ومثله مبتدأ والظلمات خبره، والجملة صفة لمن. وقيل مثل زائدة، والمعنى كمن في الظلمات، كما تقول أنا أكرم من مثلك، أي منك، ومثلهفَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } المائدة 95لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } الشورى 11. وقيل المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } في محل نصب على الحال، أي حال كونه ليس بخارج منها بحال من الأحوال. قوله { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } أي مثل ذلك الجعل جعلنا في كل قرية. والأكابر جمع أكبر، قيل هم الرؤساء والعظماء، وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد، والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } أي وبال مكرهم عائد عليهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك لفرط جهلهم { وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ } من الآيات، { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء، وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة، ونظيرهيُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } المدثر 52. والمعنى إذا جاءت الأكابر آية قالوا هذه المقالة، فأجاب الله عنهم بقوله { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } أي إن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً، ويكون موضعاً لها، وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، ثم توعدهم بقوله { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ } أي ذلّ وهوان، وأصله من الصغر كأنّ الذلّ يصغر إلى المرء نفسه. وقيل الصغار هو الرضا بالذلّ، روي ذلك عن ابن السكيت.

السابقالتالي
2