الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } * { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

البصائر جمع بصيرة، وهي في الأصل نور القلب، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح. وهذا الكلام وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخره { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها، وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه، كما يقال جاءت العافية، وانصرف المرض، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار { وَمَنْ عَمِىَ } عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها، فضرر ذلك على نفسه لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره النار { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } برقيب أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم. قال الزجاج نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان. { وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه. قوله { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } العطف على محذوف، أي نصرّف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. أو علة لفعل محذوف يقدّر متأخراً، أي وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام للعاقبة أو للصيرورة. والمعنى ومثل ذلك التصريف نصرّف الآيات وليقولوا درست، فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الاكتراث بقولهم. وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج. وقال النحاس وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى { نُصَرّفُ ٱلآيَـٰتِ } نأتي بها آية بعد آية { وَلّيَقُولواْ دَرَسْتَ } علينا، فيذكرون الأوّل بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله أبو إسحاق يعني الزجاج مجاز. وفي { دَرَسْتَ } قراءات، قرأ أبو عمرو، وابن كثير «دارست» بألف بين الدال والراء كفاعلت، وهي قراءة عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وأهل مكة. وقرأ ابن عامر «درست» بفتح السين وإسكان التاء من غير ألف كخرجت، وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون «درست» كضربت، فعلى القراءة الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدلّ على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقولهوَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون } الفرقان 4 أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ومثله قولهمأَسَـٰطِيرُ ٱلأوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } الفرقان 5، وقولهمإِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ } النحل 103. والمعنى على القراءة الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت، وهو كقولهمأَسَـٰطِيرُ ٱلأوَّلِينَ } الأنعام 25، وفي ثمانية مواضع أُخر من كتاب الله العزيز. والمعنى على القراءة الثالثة مثل المعنى على القراءة الأولى. قال الأخفش هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ. وحكى عن المبرد أنه قرأ " وَلِيَقُولُواْ " بإسكان اللام، فيكون فيه معنى التهديد، أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين، وفي اللفظ أصله درس يدرس دراسة، فهو من الدرس، وهو القراءة.

السابقالتالي
2 3