الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } * { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } * { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

هذا الكلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم. قال النحاس { الجنّ } المفعول الأوّل، و { شركاء } المفعول الثاني كقوله تعالىوَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } المائدة 20وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } المدثر 12 وأجاز الفراء أن يكون الجنّ بدلاً من شركاء ومفسراً له. وأجاز الكسائي رفع الجنّ بمعنى هم الجنّ، كأنه قيل من هم؟ فقيل الجنّ، وبالرفع قرأ يزيد بن أبي قطيب، وأبو حيان، وقرىء بالجر على إضافة شركاء إلى الجنّ للبيان. والمعنى أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه، وعظموهم كما عظموه. وقيل المراد بالجنّ هاهنا الملائكة لاجتنانهم، أي استتارهم، وهم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقيل نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدوابّ، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب. وروي ذلك عن الكلبي، ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا للعالم صانعان هما الربّ سبحانه والشيطان. وهكذا القائلون كل خير من النور، وكل شرّ من الظلمة، وهم المانوية. قوله { وَخَلَقَهُمْ } جملة حالية بتقدير قد، أي وقد علموا أن الله خلقهم، أو خلق ما جعلوه شريكاً لله. قوله { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } قرأ نافع بالتشديد على التكثير، لأن المشركين ادّعوا أن الملائكة بنات الله، والنصارى ادّعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادّعوا أن عزيراً ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم فشدّد الفعل لمطابقة المعنى. وقرأ الباقون بالتخفيف. وقرىء " حرفوا " من التحريف أي زوّروا. قال أهل اللغة معنى { خرقوا } اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال اختلق الإفك، واخترقه وخرقه، أو أصله من خرق الثوب إذا شقه، أي اشتقوا له بنين وبنات. قوله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق بمحذوف هو حال، أي كائنين بغير علم، بل قالوا ذلك عن جهل خالص، ثم بعد حكاية هذا الضلال البين، والبهت الفظيع من جعل الجنّ شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له، نزه الله نفسه، فقال { سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } وقد تقدّم الكلام في معنى { سبحانه }. ومعنى { تعالى } تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به. قوله { بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } أي مبدعهما، فكيف يجوز أن { يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } وقد جاء البديع بمعنى المبدع، كالسميع بمعنى المسمع كثيراً، ومنه قول عمرو بن معدي كرب
أمن ريحانة الدَّاعى السَّميع يؤرقني وأصحابي هجوع   
أي المسمع. وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل، والأصل بديع سمواته وأرضه. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله. والظاهر أن رفعه على تقدير مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ وخبره { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ }. وقيل هو مرفوع على أنه فاعل { تعالى } ، وقرىء بالنصب على المدح، والاستفهام في { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } للإنكار والاستبعاد، أي من كان هذا وصفه، وهو أنه خالق السموات والأرض وما فيهما، كيف يكون له ولد؟ وهو من جملة مخلوقاته، وكيف يتخذ ما يخلقه ولداً، ثم بالغ في نفي الولد، فقال { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ } أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم تكن له صاحبة؟ والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد، وجملة { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء } لتقرير ما قبلها، لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا تخفى عليه من مخلوقاته خافية، والإشارة بقوله { ذٰلِكُمْ } إلى الأوصاف السابقة، وهو في موضع رفع على الابتداء وما بعده خبره، وهو الاسم الشريف، و { رَبُّكُـمْ } خبر ثان، و { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } خبر ثالث، و { خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } خبر رابع، ويجوز أن يكون { ٱللَّهُ رَبُّكُمُ } بدلاً من اسم الإشارة، وكذلك { لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } خبر المبتدأ، ويجوز ارتفاع خالق على إضمار مبتدأ، وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه.

السابقالتالي
2 3