الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } * { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }

بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله، للدلالة على أن الحمد كله لله، ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون. وقد تقدّم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا، ثم وصف نفسه بأنه الذي خلق السموات والأرض إخباراً عن قدرته الكاملة، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده، هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الاختراع، وبمعنى التقدير. وقد تقدّم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها، وقدّمها على الأرض لتقدّمها في الوجودوَٱلأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } النازعات 30. قوله { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } معطوف على خلق. ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله { خَلقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } ثم ذكر خلق الأعراض بقوله { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض. واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضياء النهار. وقال الحسن الكفر والإيمان. قال ابن عطية وهذا خروج عن الظاهر انتهى. والأولى أن يقال إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمانأَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ } الأنعام 122 وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس جعل هنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق، فيكون الجمع معطوفاً على الجمع، والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً من الليل. قوله { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوف على الحمد لله، أو على خلق السموات والأرض، و " ثم " لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه، لا الكفر به واتخاذ شريك له، وتقديم المفعول للاهتمام، ورعاية الفواصل، وحذف المفعول لظهوره، أي يعدلون به مالا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر. قوله { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ } في معناه قولان أحدهما، وهو الأشهر، وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، وأخرج مخرج الخطاب للجميع، لأنهم ولده ونسله. الثاني، أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث، وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه.

السابقالتالي
2 3