الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

قوله { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أي بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كلّ رسول { وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } قال قتادة، ومقاتل بن حيان الميزان العدل أمرناهم بالعدل، كما في قولهوَٱلسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } الرحمٰن 7 وقولهٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ وَٱلْمِيزَانَ } الشورى 17 وقال ابن زيد هو ما يوزن به ويتعامل به، ومعنى { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } ليتبعوا ما أمروا به من العدل، فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله إنزال أسبابه وموجباته. وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها، فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب
علفتها تبناً وماء بارداً   
{ وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } أي خلقناه، كما في قولهوَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلأنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } الزمر 6 والمعنى أنه خلقه من المعادن، وعلم الناس صنعته، وقيل إنه نزل مع آدم { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } لأنه تتخذ منه آلات الحرب. قال الزجاج يمتنع به ويحارب، والمعنى أنه تتخذ منه آلة للدفع، وآلة للضرب. قال مجاهد فيه جنة وسلاح، ومعنى { وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ } أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين، والفأس، والإبرة، وآلات الزراعة، والنجارة، والعمارة { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } معطوف على قوله { ليقوم الناس } أي لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت، ليقوم الناس وليعلم، وقيل معطوف على علة مقدّرة، كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله، والأوّل أولى. والمعنى أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصره دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، و { بالغيب } في محلّ نصب على الحال من فاعل ينصره، أو من مفعوله أي غائباً عنهم، أو غائبين عنه { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ } أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين. { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرٰهِيمَ } لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرّر القسم للتوكيد { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ } أي جعلنا فيهم النبوّة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل جعل بعضهم أنبياء، وبعضهم يتلون الكتاب { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ } أي فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم، وقيل المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } خارجون عن الطاعة. { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا } أي اتبعنا على آثار الذرية، أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران.

السابقالتالي
2 3 4 5