الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }

الطيبات هي المستلذات لما أحلّه الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً منهم، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرّباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا فرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً مما أحلّه لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم حرام عليّ، وحرّمته على نفسي، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني. قال ابن جرير الطبري لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام، وترك اللحم، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء. قال فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظنّ خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته. قوله { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحلّ الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرّم الله عليكم أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرّم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة. وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما إن من حرّم شيئاً صار محرّماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهو خلاف ما في هذه الآية، وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله. وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } تعليل لما قبله، وظاهره أن تحريم كل اعتداء أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } حال كونه { حَلَـٰلاً طَيّباً } أي غير محرّم ولا مستقذر، أو أكلا حلالاً طيباً، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }.

السابقالتالي
2