الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ }

قوله { لَتَجِدَنَّ } الخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوىء اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز. والمعنى في الآية أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشدّ جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك. وأن النصارى أقرب الناس مودّة للمؤمنين، واللام في { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودّة، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى كونهم أقرب مودّة، والباء في { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ } للسببية أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين، وهو جمع قسّ وقسيس قاله قطرب. والقسيس العالم، وأصله من قسّ إذا تتبع الشيء وطلبه. قال الراجز
يصبحن عن قسّ الأذى غوافلا   
وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها والقسّ النميمة. والقسّ أيضاً رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس مثل الشرّ والشرّير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال أحد السينين واواً، والأصل قساسة، فالمراد بالقسيسين في الآية المتبعون للعلماء والعباد، وهو إما عجميّ خلطته العرب بكلامها، أو عربيّ، والرهبان جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه أي خافه. والرهبانية والترهب التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان ورهابين كقربان وقرابين. وقد قال جرير في الجمع
رهبان مدين لو رأوك ترهبوا   
وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً
لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبـان يسعى ونزل   
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق، بل هم متواضعون، بخلاف اليهود فإنهم على ضدّ ذلك، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } معطوف على جملة { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ }. { تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } أي تمتلىء فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، جعل الأعين تفيض، والفائض إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه. قال امرؤ القيس
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بلّ دمعي محملي   
قوله { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } من الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية، أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقرىء " تَرَى أَعْيُنَهُم " على البناء للمجهول. وقوله { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا } استئناف مسوق لجواب سؤال مقدّر، كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن؟ فقال { يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه { فاكتبنا مع الشاهدين } على الناس يوم القيامة، من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.

السابقالتالي
2 3