الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

العموم الكائن في { ما أنزل } يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزله الله إليه، لا يكتم منه شيئاً. وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزل الله إليه شيئاً، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب. وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال قلت لعليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. { فَإِن لَّمْ تَفْعَل } ما أمرت به من تبليغ الجميع، بل كتمت ولو بعضاً من ذلك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }. قرأ أبو عمرو، وأهل الكوفة إلا شعبة «رسالته» على التوحيد. وقرأ أهل المدينة وأهل الشام «رسالاته» على الجمع، قال النحاس والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئاً فشيئاً، ثم يبينه انتهى. وفيه نظر، فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات، كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ما نزل إليهم، وقال لهم في غير موطن " هل بلغت؟ " فيشهدون له بالبيان، فجزاه الله عن أمته خيراً ثم إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعاً لما يظنّ أنه حامل على كتم البيان، وهو خوف لحوق الضرر من الناس، وقد كان ذلك بحمد الله، فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعاً أو كرهاً، وقتل صناديد الشرك وفرّق جموعهم وبدّد شملهم، وكانت كلمة الله هي العليا، فأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل، حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم " ما تظنون أني فاعل بكم؟ " فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال " اذهبوا فأنتم الطلقاء ". وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس، إن قام ببيان حجج الله، وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضادّ الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيماناً وصلابة في دين الله وشدّة شكيمة في القيام بحجة الله، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام، ومضطربو القلوب، من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلة وتوهمات باطلة، فإن كل محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى

السابقالتالي
2 3