الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }

قوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } اليد عند العرب تطلق على الجارحة، ومنه قوله تعالىوَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } صۤ 44 وعلى النعمة، يقولون كم يد لي عند فلان وعلى القدرة. ومنه قوله تعالىقُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } آل عمران 73 أو على التأييد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " يد الله مع القاضي حين يقضي " وتطلق على معان أخر. وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالىوَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } الإسراء 29 والعرب تطلق غلّ اليد على البخل، وبسطها على الجود مجازاً، ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكفّ، ومنه قول الشاعر
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعداً أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح   
فمراد اليهود هنا عليهم لعائنٍ الله أن الله بخيل، فأجاب سبحانه عليهم بقوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ويجوز أن يراد غلّ أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخر، ويقوّي المعنى الأوّل أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظلّ للشمس، فلا ترى يهودياً، وإن كان ماله في غاية الكثرة، إلا وهو من أبخل خلق الله، وأيضاً المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله. قوله { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } معطوف على ما قبله والباء سببية أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، ثم رد سبحانه بقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الردّ عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدّرة يقتضيها المقام أي كلا ليس الأمر كذلك { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقيل المراد بقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة. وقيل نعمة المطر والنبات. وقيل الثواب والعقاب. وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ «بل يداه بسيطتان» أي منطلقتان كيف يشاء. قوله { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فإن شاء وسع، وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة، لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى وموادّ جوده لا تتناهى. قوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم } إلخ، اللام هي لام القسم أي ليزيدن كثيراً من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة { طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } أي طغياناً إلى طغيانهم، وكفراً إلى كفرهم.

السابقالتالي
2 3 4