الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدّة منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } يقال أوفى ووفى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر فقال
أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها   
والعقود العهود، وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قويّ التوثيق قيل المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ. قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة لا يدري أين طرفاها. والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لما في مشيها من اللين. وقيل بهيمة الأنعام وحشيها، كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام، مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارج عن حدّ الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع. وقيل بهيمة الأنعام ما لم تكن صيداً، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة. وقيل بهيمة الأنعام الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام، فهي تؤكل من دون ذكاة، وعلى القول الأوّل، أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم، تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحلّ مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5 6