الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

ضمير الفصل في قوله { هُوَ ٱلْمَسِيحُ } يفيد الحصر قيل وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى وقيل لم يقل به أحد منهم، ولكن استلزم قولهم { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ } لا غيره، وقد تقدّم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار. قوله { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك، والملك الضبط والحفظ والقدرة، من قولهم ملكت على فلان أمره أي قدرت عليه، أي فمن يقدر أن يمنع { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً } وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك، فلا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما تزعم النصارى، لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقلّ حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض، لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها، أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر { من في الأرض } للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي ما بين النوعين من المخلوقات. قوله { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء. قوله { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالواعُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } التوبة 30 وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالواٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } التوبة 30 وقيل هو على حذف مضاف أي نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم، فقال { قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل، والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك، لقولكملَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } التوبة 8 فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدلّ على أنكم كاذبون في هذه الدعوى. وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف. قوله { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } عطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام أي فلستم حينئذ كذلك، { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشرّ، ويجازي كل عامل بعمله { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } من الموجودات { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة.

السابقالتالي
2