الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } * { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } * { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } * { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } * { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } * { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَٰهُمْ } * { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }

خوّف سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشدّ منهم فقال { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـٰهُمْ } قد قدّمنا أن " كأين " مركبة من الكاف وأيّ، وأنها بمعنى كم الخبرية أي وكم من قرية، وأنشد الأخفش قول لبيد
وكأين رأينا من ملوك وسوقة ومفتاح قيد للأسير المكبل   
ومعنى الآية وكم من أهل قرية هم أشدّ قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم { فَلاَ نَـٰصِرَ لَهُمْ } فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكة، فالكلام على حذف المضاف، كما في قولهوَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } يوسف 82 قال مقاتل أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم. ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن، وحال الكافر فقال { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، ومن مبتدأ، والخبر { كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } وأفرد في هذا باعتبار " لفظ " من، وجمع في قوله { وَٱتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ } باعتبار معناها، والمعنى أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه، ولا يكون كمن زيّن له سوء عمله، وهو عبادة الأوثان، والإشراك بالله، والعمل بمعاصي الله، واتبعوا أهواءهم في عبادتها، وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلاً عن حجة نيرة. ثم لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء، والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة، وبيان ما فيها ومعنى { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ } وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ، وخبره محذوف. قال النضر بن شميل تقديره ما يسمعون، وقدّره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة، قال والمثل هو الوصف، ومعناه وصف الجنة، وجملة { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } إلخ مفسرة للمثل. وقيل إن { مثل } زائدة، وقيل إن { مثل الجنة } مبتدأ، والخبر { فيها أنهار } ، وقيل خبره { كمن هو خالد } ، والآسن المتغير، يقال أسن الماء يأسن أسوناً إذا تغيرت رائحته، ومثله الآجن، ومنه قول زهير
قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المالح الأسن   
قرأ الجمهور { آسن } بالمدّ. وقرأ حميد، وابن كثير بالقصر، وهما لغتان كحاذر وحذر. وقال الأخفش إن الممدود يراد به الاستقبال، والمقصود يراد به الحال، { وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي لم يحمض، كما تغير ألبان الدنيا لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر { وَأَنْهَـٰرٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـٰرِبِينَ } أي لذيذة لهم طيبة الشرب لا يكرهها الشاربون، يقال شراب لذّ ولذيذ وفيه لذة بمعنى، ومثل هذه الآية قوله

السابقالتالي
2 3 4 5