الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } * { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }

الهمزة في قوله { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ } للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر، أي أيعرضون عن القرآن، فلا يتدبرونه. يقال تدبرت الشيء تفكرت في عاقبته وتأملته، ثم استعمل في كل تأمل، والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، ودلت هذه الآية، وقوله تعالىأَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } محمد 24 على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه. والمعنى أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني، قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً } أي تفاوتاً وتناقضاً، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات، والسور لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت، وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب، فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر. قوله { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } يقال أذاع الشيء وأذاع به إذا أفشاه، وأظهره، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين، وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك. قوله { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ } وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر عند حفرها. وقيل إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها، فتحصل بذلك المفسدة. قوله { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله، وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان، فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم، أو إلا اتباعاً قليلاً منكم، وقيل المعنى أذاعوا به إلا قليلاً منهم، فإنه لم يذع ولم يفش. قاله الكسائي، والأخفش، والفراء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وابن جرير. وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً } يقول إن قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.

السابقالتالي
2