الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } * { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } * { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }

الباطل ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع، أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله { عَن تَرَاضٍ } صفة لتجارة، أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالىهَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الصف 10. وقولهيَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ } فاطر 29. واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر كما في الحديث الصحيح " البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " وإليه ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وابن عيينة، وإسحاق وغيرهم. وقال مالك، وأبو حنيفة تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرىء " تجارة " بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة. قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد، وسنن أبي داود وغيرهما. قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي القتل خاصة، أو أكل أموال الناس ظلماً، والقتل عدواناً وظلماً، وقيل هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة. وقال ابن جرير إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالىأَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } النساء 19 لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } فإنه لا وعيد بعده إلا قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } والعدوان تجاوز الحدّ. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. وقيل إن معنى العدوان، والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد، كما في قول الشاعر
وألفى قولها كذباً ومينا   
وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص، وقتل المرتد، وسائر الحدود الشرعية، وكذلك قتل الخطأ.

السابقالتالي
2 3 4