الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } * { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }

أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة، يقال نكفت من الشيء، واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه. قال الزجاج استنكف أي أنف، مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خديك وقيل هو من النكف، وهو العيب، يقال ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب. ومعنى الأوّل لن يأنف عن العبودية، ولن يتنزّه عنها. ومعنى الثاني لن يعيب العبودية، ولن ينقطع عنها { وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } عطف على المسيح، أي ولن يستنكف الملائكة المقرّبون عن أن يكونوا عباداً لله. وقد استدلّ بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وادّعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود كان هكذا، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير، لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه، وعلى كل حال، فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة، وما أقلّ فائدتها، وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الشرعية الدينية، وجسراً من الجسور { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } أي يأنف تكبراً، ويعدّ نفسه كبيراً عن العبادة { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } المستنكف وغيره، فيجازي كلاً بعمله. وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أوّل الكلام عليه. ولكون الحشر لكلا الطائفتين { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } من غير أن يفوتهم منها شيء { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } بسبب استنكافهم واستكبارهم { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يواليهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم. قوله { يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات. والبرهان ما يبرهن به على المطلوب { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } وهو القرآن، وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ } أي بالله، وقيل بالنور المذكور { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ } يرحمهم بها { وَفَضَّلَ } يتفضل به عليهم { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ } أي إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه، وتفضله { صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } أي طريقاً يسلكونه إليه مستقيماً لا عوج فيه، وهو التمسك بدين الإسلام، وترك غيره من الأديان، قال أبو علي الفارسي الهاء في قوله { إِلَيْهِ } راجعة إلى ما تقدّم من اسم الله وقيل راجعة إلى القرآن وقيل إلى الفضل وقيل إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب وانتصاب { صراطاً } على أنه مفعول ثان للفعل المذكور وقيل على الحال.

السابقالتالي
2