الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } * { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

قوله { إِذْ قَالَتِ } قال أبو عمرو «إذ» زائدة. وقال محمد بن يزيد إنه متعلق بمحذوف تقديره اذكر إذ قالت. وقال الزجاج هو متعلق بقوله { ٱصْطَفَى } وقيل متعلق بقوله { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وامرأة عمران اسمها - حنة بالحاء المهملة، والنون - بنت فاقود بن قبيل أم مريم، فهي جدة عيسى. وعمران هو ابن ماثان جد عيسى، قوله { رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } تقديم الجار، والمجرور، لكمال العناية، وهذا النذر كان جائزاً في شريعتهم. ومعنى { لَكَ } أي لعبادتك { ومحرراً } منصوب على الحال، أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة. والمراد هنا الحرية التي هي ضد العبودية. وقيل المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران، وامرأته حران. قوله { فَتَقَبَّلْ مِنّي } التقبل أخذ الشيء على وجه الرضا، أي تقبل مني نذري بما في بطني. قوله { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى، أو لكونه أنثى في علم الله، أو بتأويل ما في بطنها بالنفس، أو النسمة، أو نحو ذلك. قوله { قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ } إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى، فكأنها تحسرت، وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه، وتقدره، و { أنثى } حال مؤكدة من الضمير، أو بدل منه. قوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ أبو بكر، وابن عامر بضم التاء، فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلاً بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع، والتنزيه له أن يخفى عليه شيء. وقرأ الجمهور { وضعت } ، فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه، والتجليل لها حيث وقع منها التحسر، والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله، وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويختصها بما لم يختص به أحداً. وقرأ ابن عباس «بما وضعت» بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها، أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول. قوله { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلاْنثَىٰ } أي وليس الذكر الذي طلبت، كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم، وشأنها فخيم. وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع، ورفع شأنه، وعلوّ منزلته، واللام في الذكر، والأنثى للعهد، هذا على قراءة الجمهور، وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر، وابن عامر، فيكون قوله { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلاْنثَىٰ } من جملة كلامها، ومن تمام تحسرها، وتحزنها، أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً، ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت.

السابقالتالي
2 3