الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } * { هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

البطانة مصدر يسمى به الواحد، والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً، وبطانة إذا كان خاصاً به، ومنه قول الشاعر
وهم خُلْصائي كلهم وَبِطَانَتي وهم عَيْبَتي مِنْ دُونِ كلّ قَريبِ   
قوله { مّن دُونِكُمْ } أي من سواكم، قاله الفراء أي من دون المسلمين، وهم الكفار، أي بطانة كائنة من دونكم، ويجوز أن يتعلق بقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ }. وقوله { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } في محل نصب صفة لبطانة، يقال لا ألوك جهداً أي لا أقصر. قال امرؤ القيس
وَمَا المرء مَا دَامت حشَاشَةُ نفْسِه بِمُدْركِ أطْرافِ الخُطَوبِ وَلا آلِ   
والمراد لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وإنما عدّي إلى مفعولين لكونه مضمناً معنى المنع، أي لا يمنعونكم خبالاً، والخبال، والخبل الفساد في الأفعال، والأبدان، والعقول. قال أوس
أبَنِي لُبُنَي لَستُم بيَدٍ إلا يداً مَخبْولَةَ العَضد   
أي فاسدة العضد. قوله { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } " ما " مصدرية، أي ودّوا عنتكم، والعنت المشقة، وشدة الضرر، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي. قوله { قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء } هي شدة البغض، كالضراء لشدة الضر. والأفواه جمع فم. والمعنى أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم لأنهم لما خامرهم من شدة البغض، والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية، وصرحوا بالتكذيب. أما اليهود، فالأمر في ذلك واضح. وأما المنافقون، فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم. وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً. ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان. قوله { هَاأَنتُمْ أُوْلاء } جملة مصدرة بحرف التنبيه، أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية. فقال { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، وقيل إن قوله { تُحِبُّونَهُمْ } خبر ثان لقوله { أنتم } ، وقيل إن أولاء موصول، و { تحبونهم } صلته أي تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان، أو لما بينكم، وبينهم من القرابة { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد. قوله { وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلّهِ } أي بجنس الكتاب جميعاً، ومحل الجملة النصب على الحال، أي لا يحبونكم، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بكتابكم. وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة، والشدّة ممن هو على الباطل { وإذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقاً وتقية { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلاْنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } تأسفاً، وتحسراً، حيث عجزوا عن الانتقام منكم، والعرب تصف المغتاظ، والنادم يعضّ الأنامل، والبنان، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم، فقال { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت، وهم عليه، ثم قال { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } فهو يعلم ما في صدوركم، وصدورهم، والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بها، وهو كلام داخل تحت قوله { قُلْ } فهو من جملة المقول.

السابقالتالي
2