الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } * { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } * { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ } * { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

لما بيّن سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال، فقال { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ، وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، و { نور السمٰوات والأرض } خبره، إما على حذف مضاف، أي ذو نور السموات، والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله، وظهور عدله، وبسطه أحكامه، كما يقال فلان نور البلد، وقمر الزمن، وشمس العصر، ومنه قول النابغة
فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب   
وقول الآخر
هلا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد   
ومن ذلك قول الشاعر
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها   
وقول الآخر
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا   
ومعنى النور في اللغة الضياء، وهو الذي يبين الأشياء، ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنوّرة، وأوجد أنوارها، ونوّرها، ويدلّ على هذا المعنى قراءة زيد بن عليّ، وأبي جعفر، وعبد العزيز المكي { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى الله، والسماوات مفعوله فمعنى { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما، وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما، كما يقال الملك نوّر البلد، هكذا قال الحسن، ومجاهد، والأزهري، والضحاك، والقرظي، وابن عرفة، وابن جرير، وغيرهم، ومثله قول الشاعر
وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريف   
وقال هشام الجواليقي، وطائفة من المجسمة إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله { مَثَلُ نُورِهِ } مبتدأ، وخبره { كَمِشْكَاةٍ } أي صفة نوره الفائض عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوّة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح، أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يجعل فيه الشيء. وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد هي القنديل. والأوّل أولى، ومنه قول الشاعر
كأن عينيه مشكاتان في جحر   
ثم قال { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو السراج { ٱلْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ } قال الزجاج النور في الزجاج، وضوء النار أبين منه في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة، فقال { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ } أي منسوب إلى الدرّ لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدرّ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9