الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } * { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج تحته غضّ البصر من المستأذن، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإذن من أجل البصر " وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها، وأولى بذلك ممن سواهم. وقيل إن في الآية دليلاً على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم، وفي الكلام حذف، والتقدير قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ غضوا يَغُضُّواْ، ومعنى غضّ البصر إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية، ومنه قول جرير
فغضّ الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا   
وقول عنترة
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها   
و«من» في قوله { مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ } هي التبعيضية، وإليه ذهب الأكثرون، وبينوه بأن المعنى غضّ البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل. وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أوّل نظرة تقع من غير قصد. وقال الأخفش إنها زائدة، وأنكر ذلك سيبويه. وقيل إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء. واعترض عليه بأنه لم يتقدّم مبهم يكون مفسراً بمن، وقيل إنها لابتداء الغاية قاله ابن عطية، وقيل الغضّ النقصان، يقال غضّ فلان من فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو مغضوض منه، ومنقوص، فتكون " مِنْ " صلة للغضّ، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة. وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحلّ النظر إليه، ومعنى { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم. وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحلّ له رؤيتها، ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج. قيل ووجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلاّ ما استثنى، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه، فإنه لا يحلّ منه إلاّ ما استثنى. وقيل الوجه أن غضّ البصر كله كالمتعذر، بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما ذكر من الغضّ، والحفظ، وهو مبتدأ، وخبره { أَزْكَىٰ لَهُمْ } أي أظهر لهم من دنس الريبة، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه شيء من صنعهم، وفي ذلك وعيد لمن لم يغضّ بصره، ويحفظ فرجه. { وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ } خصّ سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهنّ تحت خطاب المؤمنين تغليباً كما في سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا، لأن لام الفعل من الأوّل متحرّكة، ومن الثاني ساكنة، وهما في موضع جزم جواباً للأمر، وبدأ سبحانه بالغضّ في الموضعين قبل حفظ الفرج لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج، والوسيلة مقدّمة على المتوسل إليه، ومعنى { يغضضن من أبصارهنّ } كمعنى يغضوا من أبصارهم، فيستدلّ به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهنّ، وكذلك يجب عليهنّ حفظ فروجهنّ على الوجه الذي تقدّم في حفظ الرجال لفروجهم { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } أي ما يتزينّ به من الحلية، وغيرها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهنّ بالأولى.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8