الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }

قوله { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة
وجرح اللسان كجرح اليد   
وقال آخر
رماني بأمر كنت عنه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني   
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل إن الآية تعمّ الرجال، والنساء، والتقدير والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرىوَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء } النساء 24 فإن البيان بكونهنّ من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء، وإلاّ لم يكن للبيان كثير معنى. وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قالوَٱلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } الأنبياء 91. فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل إن لفظ المحصنات، وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، والمراد بالمحصنات هنا. العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان، وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطوّلة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها ما هو مجرّد رأي بحت. قرأ الجمهور { والمحصنات } بفتح الصاد، وقرأ يحيـىٰ بن وثاب بكسرها. وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حدّ على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري، وسعيد بن المسيب، وابن أبي ليلى إنه يجب عليه الحدّ. وذهب الجمهور أيضاً أن العبد يجلد أربعين جلدة. وقال ابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، وقبيصة يجلد ثمانين. قال القرطبي وأجمع العلماء على أن الحرّ لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم " أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحدّ يوم القيامة إلاّ أن يكون كما قال ". ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحدّ على من قذف المحصنات فقال { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } أي يشهدون عليهنّ بوقوع الزنا منهنّ، ولفظ ثم يدلّ على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك مالك، وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن، ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ القذف. وقال الحسن، والشعبي إنه لا حدّ على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن. ويردّ ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6