الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } * { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } * { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ }

لما انجرّ الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها، حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال { يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه، وقد قدّمنا طرفاً من تحقيق ذلك في سورة البقرة، وجملة { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْء عَظِيمٌ } تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدّة الحركة، وأصلها من زلّ عن الموضع، أي زال عنه وتحرّك، وزلزل الله قدمه، أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، وهي على هذا، الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور. وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها. وقيل إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف، وهو الساعة، إجراء له مجرى المفعول، أو بتقدير " في " كما في قولهبَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } سبأ 33. وهي المذكورة في قولهإِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } الزلزلة 1. قيل وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها. { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة، أي وقت رؤيتكم لها، تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه. قال قطرب تذهل تشتغل، وأنشد قول الشاعر
ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله   
وقيل تنسى. وقيل تلهو. وقيل تسلو، وهذه معانيها متقاربة. قال المبرّد إن «ما» فيما أرضعت بمعنى المصدر أي تذهل عن الإرضاع، قال وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع، إلا أن يقال من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل كما يقاليَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدٰنَ شِيباً } المزمل 17. وقيل يكون مع النفخة الأولى، قال ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما في قولهمَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ } البقرة 214. ومعنى { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدّة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ } قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد، أي يراهم الرائي كأنهم سكارى { وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ } حقيقة، قرأ حمزة والكسائي " سكرى " بغير ألف، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6