الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } * { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } * { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ }

قوله { قَالَ ٱهْبِطَا } قد مرّ تفسيره في البقرة، أي انزلا من الجنة إلى الأرض، خصهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر، ثم عمم الخطاب لهما ولذرّيتهما فقال { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن يقال خاطبهما في هذا وما بعده خطاب الجمع لأنهما منشأ الأولاد. ومعنى { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } تعاديهم في أمر المعاش ونحوه، فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } بإرسال الرسل وإنزال الكتب { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } أي عن ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي فإن له في هذه الدنيا معيشة ضنكاً، أي عيشاً ضيقاً. يقال منزل ضنك وعيش ضنك، مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، قال عنترة
إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل   
وقرىء { ضُنكى } بضم الضاد على فُعلى، ومعنى الآية أن الله عزّ وجلّ جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه، كما قال سبحانهفَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً } النحل 97. وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب، فهو في الأخرى أشدّ تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً، وذلك معنى { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ } أي مسلوب البصر. وقيل المراد العمى عن الحجة. وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها. وقد قيل إن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وسيأتي ما يرجح هذا ويقوّيه. { قَالَ رَبّى لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } في الدنيا { قَالَ كَذٰلِكَ } أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسره بقوله { أَتَتْكَ آيَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا } أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا تنسى، أي تترك في العمى والعذاب في النار. قال الفراء يقال إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره. { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } أي مثل ذلك الجزاء نجزيه. والإسراف الانهماك في الشهوات. وقيل الشرك. { وَلَمْ يُؤْمِن بِـئَايَـٰتِ رَبّهِ } بل كذب بها { وَلَعَذَابُ ٱلاْخِرَةِ أَشَدُّ } أي أفظع من المعيشة الضنك { وَأَبْقَىٰ } أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع. وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

السابقالتالي
2