الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } * { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

قد تقدّم تفسير أخذ الميثاق، ورفع الطور. والأمر بالسماع معناه الطاعة والقبول، وليس المراد مجرد الإدراك بحاسة السمع، ومنه قولهم «سمع الله لمن حمده» أي قبل وأجاب، ومنه قول الشاعر
دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ما أقول   
أي يقبل، وقولهم في الجواب { سَمِعْنَا } هو على بابه، وفي معناه أي سمعنا قولك بحاسة السمع، وعصيناك، أي لا نقبل ما تأمرنا به، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم «سمعنا» ما هو معهود من تلاعبهم، واستعمالهم المغالطة في مخاطبة أنبيائهم، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى { *اسمعوا } على معناه الحقيقي أي السماع بالحاسة، ثم أجابوا بقولهم { سَمِعْنَا } أي أدركنا ذلك بأسماعنا، عملاً بموجب ما تأمر به، ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد لله عزّ وجلّ، بل مراده بالأمر سماع الأمر بالطاعة والقبول لم يقتصروا على هذه المغالطة بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم فقالوا { وَعَصَيْنَا }. وفي قوله { وَٱشْرَبُواْ } تشبيه بليغ، أي جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها كأنها تشربه، ومثله قول زهير
فصحوتُ عنها بعد حُبٍّ داخل والحبُّ يشُرْبِهُ فؤادك داء   
وإنما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاوزها، ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله { بِكُفْرِهِمْ } سببية أي كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم، وخذلاناً. وقوله { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ } أي إيمانكم الذي زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بما وراءه، فإن هذا الصنع، وهو قولكم { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } في جواب ما أمرتم به في كتابكم، وأخذ عليكم الميثاق به مناد عليكم بأبلغ نداء بخلاق ما زعمتم، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل، ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكمنُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا } البقرة 91 لا صادقون، فإن زعمتم أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم بهذا، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى. وقوله { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلأخِرَةُ } هو ردٌّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، و { خَالِصَةٌ } منصوب على الحال، ويكون خبر كان هو عند الله، أو يكون خبر كان هو خالصة، ومعنى الخلوص أنه لا يشاركهم فيها غيرهم، إذا كانت اللام في قوله { مّن دُونِ ٱلنَّاسِ } للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد.

السابقالتالي
2 3 4