الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } * { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }

الكتاب التوراة، والتقفية الإتباع، والإرداف، مأخوذة من القفا، وهو مؤخر العنق، تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام. والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده. و { ٱلْبَيِّنَـٰتُ } الأدلة التي ذكرها الله في " آل عمران " ، و " المائدة ". والتأييد التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن { آيدناه } بالمدّ، وهما لغتان. وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الروح المقدّسة. والقدس الطهارة، والمقدّس المطهر، وقيل هو جبريل أيد الله به عيسى، ومنه قول حسان
وَجِبرِيل أمِينُ الله فينا وَرَوحُ القُدسِ لَيْس بِه خَفَاءُ   
قال النحاس وسمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة. وقيل القدس، هو الله عز وجل، وروحه جبريل، وقيل المراد بروح القدس الاسم الذي كان عيسى يحيـى به الموتى، وقيل المراد به الإنجيل. وقيل المراد به الروح المنفوخ فيه، أيده الله به لما فيه من القوّة. وقوله { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } أي بما لا يوافقها، ويلائمها، وأصل الهوى الميل إلى الشيء. قال الجوهري وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } منكم { بِمَا لاَ } يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته، احتقاراً للرسل، واستبعاداً للرسالة. والفاء في قوله { أفكلما } للعطف على مقدّر، أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء ما آتيناكم، أفكلما جاءكم رسول. وفريقاً منصوب بالفعل الذي بعده، والفاء للتفصيل، ومن الفريق المكذبين عيسى ومحمد، ومن الفريق المقتولين يحيـى وزكريا. والغُلف جمع أغلف، المراد به هنا الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه، ومنه غلفت السيف، أي جعلت له غلافاً. قال في الكشاف هو مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهقُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } فصلت 5 وقيل إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر أي قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك، وقد وعينا علماً كثيراً، فردّ الله عليهم ما قالوه فقال { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } وأصل اللعن في كلام العرب الطرد، والإبعاد، ومنه قول الشماخ
ذَعَرْتُ به القَطا وَنَفَيْتُ عنه مَقامَ الذِّئِب كالرجل اللّعين   
أي كالرجل المطرود. والمعنى أبعدهم الله من رحمته، و { قَلِيلاً } نعت لمصدر محذوف، أي إيماناً قليلاً { مَّا يُؤْمِنُونَ } و«ما» زائدة، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قصّ الله علينا من عنادهم، وعجرفتهم، وشدّة لجاجهم، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه، ومن جملة ذلك أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.

السابقالتالي
2 3