الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

قوله { وَإِذْ قُلْتُمْ } هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم قوم موسى. وقيل هم السبعون الذين اختارهم. وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك هذه المقالة، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم دعا موسى ربه، فأحياهم كما قال تعالى هنا { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة المعاينة، وأصلها الظهور، ومنه الجهر بالقراءة، والمجاهرة بالمعاصي، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً أي غير مستتر بشيء، وهي مصدر واقع موقع الحال، وقرأ ابن عباس «جهرة» بفتح الهاء، وهي لغتان مثل زهرة، وزهرة، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر. والصاعقة قد تقدم تفسيرها، وقرأ عمر، وعثمان وعليّ «الصعقة» وهي قراءة ابن محيصن، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم. { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } في محل نصب على الحال، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم. لا آخرها الذي ماتوا عنده، وقيل المراد بالصاعقة الموت، واستدل عليه بقوله { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية، وقد يغشى عليه، ثم يفيق كما في قوله تعالىوَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ } الأعراف 143 ومما يوجب بُعْد ذلك قوله { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى، بل قد يقال إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم، إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت. والمراد بقوله { ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم } الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله، يقال بعثت الناقة، أي أثرتها، ومنه قول امرىء القيس
وإخوان صدقٍ قد بَعَثْت بِسحْرِة فَقَامُوا جَمِيعاً بين غَاثٍ ونشوان   
وقول عنترة
وصحابةٌ شُمُ الأُنوف بَعْثتَهم لَيلاً وَقد مَال الكرَى بطلاها   
وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا. وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا، والآخرة، ووقوعها في الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة، وهي قطعية الدلالة، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة، وزعموا أن العقل قد حكم بها، دعوى مبنية على شفا جُرُف هار، وقواعد لا يغترّ بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية، وكلها خارج عن محل النزاع، بعيد من موضع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة.

السابقالتالي
2 3