الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }

هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً، كأنه قيل كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلاً بما قبله. قال في الكشاف ومعنى الاستعلاء في قوله { عَلَىٰ هُدًى } مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قوله جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. قال ابن جرير إن معنى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ } على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، و { ٱلْمُفْلِحُونَ } أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة الشقّ والقطع، قاله أبو عبيد ويقال الذي شقت شفته أفلح، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة، فمعنى { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف المفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم». قلت وما الفلاح؟ قال السحور. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب هم المؤمنون من العرب، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله هم، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وقد قدمنا الإشارة إلى هذا، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبـي العالية والربيع بن أنس وقتادة.

السابقالتالي
2